الصفحات

20‏/05‏/2015

الإضراب الأخير للزبالين

الإضراب الأخير للزبالين
قصة الكاتب الأرجنتيني: برناردو كوردون
ترجمة: صالح علماني



وقعت الحادثة في صباح يوم 22 كانون الأول. فالشاحنة ذات الرقم 207، من طراز دودج، والتابعة للإدارة العامة للتنظيفات كانت تمارس عملها المعتاد في شارع أريناليس. طاقم الشاحنة المؤلف من أربعة عمال كان موزعاً في عمله: اثنان على كل رصيف. بينما كانت العربة تقف في منتصف الطريق، وهذا هو الأمر الذي أثار اعتراض رجل الأعمال اسيدورو كاموسو، البالغ من العمر 45 سنة، عندما كان يقود سيارته التي من طراز فالينت ذات اللوحة رقم 904ـ597 من مدينة بوينس آيرس.
أطلق أسيدورو كاموسو نفير سيارته عدة مرات ليطلب من الشاحنة أن تفسح له الطريق، فأطل سائق الشاحنة من قمرة القيادة وألقى نظرة ساهية على صاحب السيارة الغاضب، دون أن يحرك شاحنته الثقيلة بوصة واحدة. وفي هذه اللحظة بالذات كان جامعو القمامة يحملون الأوعية الضخمة الخاصة بالعمارات ذات الأرقام: 1856، و1858/ 1845، 1849 من شارع أريناليس، وهي أبنية غير مجهزة بوسائل لحرق الفضلات. وإذا كنا قد أشرنا إلى أن السائق أوقف شاحنته في منتصف الشارع، معرقلاً بذلك حركة المرور، وأبدى عدم اكتراث ببذاءات سائق السيارة الصغيرة المتعجل، فإنه علينا من جهة أخرى أن نأخذ في الاعتبار بعض قواعد العمل الأولية. ففي منتصف الشارع تكون الشاحنة على بعد متساو عن العمال الذين يحملون القمامة عن كل رصيف من الرصيفين، وهذا تفصيل له أهميته عندما نضع في الاعتبار أن أوعية القمامة ثقيلة جداً وحملها مزعج. ولم يحدث أبداً بالطبع أن قام سائق شاحنة لجمع القمامة بتقديم هذا التفسير أو أي تفسير آخر إلى سائقي السيارات الصغيرة عديمي الصبر، وإنما كان يكتفي دائماً بإلقاء نظرة غير مبالية إليهم من قمرته التي ترفعه بضعة أمتار عن الأرض. ومع أن هذا التصرف هو عادة من عادات سائقي شاحنات القمامة، فإن اسيدورو كاموسو لم يتوقف عن هياجه. بل انه أتبع صوت النفير بعدة شتائم ثم أدار محرك سيارته، وقد قرر أمراً.
في نهاية السنة ترتفع عادة حرارة الطقس ويرتفع كذلك التوتر العصبي في مدينة بوينس آيرس. ويحدث هذا التوتر على كل المستويات وفي دخيلة كل فرد. وفي هذه السنة لم يكن عمال التنظيفات قد تلقوا مكافأة العيد، وقد انتشرت إشاعة نقابية تقول إن الإدارة لم تفكر حتى في إمكانية دفعها هذه السنة. أما رجل الأعمال كاموسو، فقد وضع خطة لمقابلة عدة هيئات مصرفية في هذا اليوم بالذات ليطلب القروض التي تمكنه من دفع اكراميات العيد للعمال الذين يهددون باحتلال مصنعه. وبينما هو خاضع لهذه المشاكل، قام بمحاولة يائسة: أدار عجلة القيادة إلى أقصى مدى، وصعد على الرصيف بالعجلتين الجانبيتين، وهكذا استطاع المرور بمحاذاة الشاحنة. فأطل برأسه من النافذة وصرخ:
ــ يا زبالة! عليكم التوقف إلى جانب الطريق!
لم يكن لدى الرجل الذي في قمرة قيادة الشاحنة الوقت الكافي للرد عليه، ولم يكن بإمكانه كذلك أن يلحق به في شاحنته الثقيلة. كان سائق السيارة الصغيرة الغاضب قد حسب كل ذلك بدقة. والمؤسف أنه في هذه اللحظة ظهر أحد العمال وهو يحمل فوق رأسه وعاء قمامة. وبحركة خفيفة ودقيقة من ذراعيه، كحركات لاعبي كرة السلة، أدخل الوعاء الممتلئ في سيارة الـ "فالينت" من خلال النافذة الخلفية.
سمع اسيدورو كاموسو دوي الزجاج، وفكر في الحال: سيدفع التأمين ذلك. ولكن ما إن التفت إلى الوراء حتى رأى شيئاً لا يمكن لأي تعويض تغطيته. فالشرف لا ثمن له..وقد رأى رجل الأعمال أنه أصيب في صميم مكانته الاجتماعية: فقد كان وعاء القمامة منثوراً على المقعد الفاخر. لقد أحس بعفونة البؤس والموت تملأ سيارته وتمزق قلبه. أوقف المحرك، وقفز من السيارة ليواجه المذنب. وكان هذا شاباً مفتول العضلات بصورة مثيرة. ولكن رجل الأعمال لم يسمح للخوف بالسيطرة عليه بسبب هذا التفصيل. سيعتقله حتى لو هدده الشاب أو طلب منه الصفح جاثياً. سيؤدب هذا الحيوان، حتى لو كلفه ذلك الصباح بطوله أو اليوم كله. ولكن الشخص الذي رماه بوعاء القمامة أبدى دهاء غريباً. فقد فتح عينيه على اتساعهما كمن لا يعي شيئاً وفتح ذراعيه متأسفاً:
ــ المعذرة يا سيدي. لقد انزلق الوعاء مني. يا للحماقة!
ثم نادى على رفاقه:
ــ هلموا أيها الشباب. لقد وقع حادث هنا!
ورأى كاموسو نفسه محاطاً بأربعة عمالقة عيونهم حازمة وأفواههم ساخرة. أحس بالرعب والحقد. عاد ليدخل في سيارته، ولكن قهقهات هؤلاء الرجال كانت لا تطاق.. كانت وكأنها تحقن دماغه بحمض. أخرج المسدس من قرابه وخرج من السيارة مرة أخرى ليواجه العمال. أطلق النار على الذي رماه بوعاء القمامة. رآه يهوي وكأنه ينزلق على الأرض، ثم لم يعد يرى شيئاً. فقد طُرح اسيدورو كاموسو أرضاً وديس بالأقدام، هشموا رأسه بوعاء قمامة. بعد ذلك حملوا الشاب الجريح إلى قمرة الشاحنة وألقوا جسد كاموسو في الصندوق الخلفي. أدار السائق جهاز كبس القمامة والتهمت شاحنة الزبالة رجل الأعمال كاموسو.
استنفرت الشرطة. وانحدرت سيارة دورية مجهزة بلاسلكي بأقصى سرعة في شارع بيلغرانو وطاردت شاحنة القمامة التي كانت تهرب باتجاه الجنوب عبر شارع كومباتي دي لوس بوثوس. وعند مستوى شارع انديبندينسيا تمكن رجال الشرطة من تجاوز الشاحنة. وعند تقاطع شارع سان خوان قامت سيارة الدورية بالوقوف في عرض الشارع لتمنع المرور، ولكن الشاحنة لم تخفف من سرعتها. وقد أعلن الشهود بأن شاحنة الدودج لم تحاول التوقف وإنما ضاعفت من سرعتها لتنطح سيارة الشرطة بقوة أكبر. ومن بين صفائح سيارة الشرطة المعصورة استُخرجت ثلاث جثث وجريح في حالة خطرة. تابعت الشاحنة مسيرها باتجاه الجنوب، وانطلقت دوريات أخرى لمطاردتها. تمكنت سيارتان من سيارات الدورية من اللحاق بالشاحنة الهاربة وفتح رجال الشرطة نيران مسدساتهم ورشاشاتهم عليها، فوقع أربعة قتلى (بين المارة)، ولكن الشاحنة تابعت طريقها محمية بهيكلها الفولاذي. عندئذ انتشرت الإشاعة القائلة بأنه لأسباب سياسية ونقابية توجد أوامر باعتقال أو إطلاق النار على جميع الزبالين. وفي الحال أذيع الخبر من إذاعة في الاورغواي، فاتجهت جميع شاحنات جمع القمامة التي كانت في شوارع بوينس آيرس بأقصى سرعة إلى موقع تجميع النفايات في الجنوب. عشرون، خمسون، ثلاثمائة شاحنة قمامة وصلت من جميع أنحاء المدينة، وملأت جادة الكورتا العريضة وتمركزت في ملعب نادي هاراكان، وفي مجمعات القمامة المجاورة وحول مستودع الغاز الذي ينتصب شاحباً في حي باتريثيوس. لم تتحمس سيارات الدورية في الاقتراب من الشاحنات التي اصطفت في وضع قتالي، وقد أدارت محركاتها مستعدة للمناطحة بتصفيحها المتين. وفي أثناء ذلك كان اجتماع لمندوبي عمال الإدارة العامة للتنظيفات يصرح بأن النقابة التي تعرضت لإطلاق النار ظلماً على يد أوليغاركي متعجرف أولاً، ثم على يد الشرطة بعد ذلك، قررت إعلان الإضراب المفتوح. اجتمعت السلطات البلدية بدورها، واستمعت إلى رئيس البلدية الذي أكد وهو يغمز بعينه صوب ممثلي الصحافة، بأن التصرف الأمثل والأذكى هو «ترك أيام الأعياد هذه تمر وفي أثناء ذلك سوف يتحلل الإضراب تلقائياً».
انقضت أيام أعياد السنة الجديدة، والاحتفال بها يجري في بوينس آيرس كما هو معروف بالأكل دون حساب. فارتفعت في كل الأنحاء أكوام من فضلات الأعياد. صدرت الأوامر بإشعال النار فيها، ولكنها كانت حرائق فاشلة، فبدلاً من اشتعال القمامة أطلقت دخاناً كثيفاً وكريهاً جعل رائحة الفضلات أشد نتانة. وهكذا انكشفت نوعية زبالة بوينس آيرس العصية على التلف، وكذلك خاصيتها العجيبة بالتكاثر في متوالية رياضية. عند ذلك هرعت السلطات البلدية المذعورة لاستشارة القوات المسلحة. رفض الجيش جمع الزبالة بعد تقييم هذا العمل بأنه من الأعمال الخاصة بالمدنيين. وإضافة إلى ذلك، فقد كان معروفاً للجميع بأن انقلاباً عسكرياً يجري تدبيره للشهور القريبة القادمة، وهكذا لم يكن الظرف مناسباً لإنزال الوحدات العسكرية إلى الشارع وخصوصاً في مهمة منهكة ومهينة كهذه. وعند دعوته إلى قصف حصن الزبالين المتمردين، أعلن قائد القوى الجوية بأن سحابة الدخان الكثيفة التي تغطي المدينة تجعل من المستحيل تنفيذ أي عملية من الجو. أما بالنسبة للسادة ضباط البحرية الحربية فقد كانوا يمضون إجازات في منتجعات ومراكز استجمام مختلفة في أنحاء البلاد.
ولعدم توفر القوة، رأت السلطات البلدية أنها مضطرة للجوء إلى القانون. فصدر قانون يمنع إلقاء القمامة أمام الأبواب الخارجية للبيوت، تحت طائلة العقوبة بالحبس الذي لا يمكن استبداله بالغرامة. ولكن هذا القانون لم ينفذ إلا في مناسبات نادرة جداً، فلم يكن ثمة من يلقى بالقمامة أمام بيته، بل كان كل شخص يفضل فعل ذلك أمام بيت جاره. وقد أدى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة إلى نتيجة تجارية غريبة: فخلال أيام قليلة نفدت من المحال التجارية جميع الأوراق المزركشة والشرائط الملونة والمواد الأخرى التي تستخدم في تغليف الهدايا، وأصبح الجميع يخرجون من بيوتهم وعلى وجوههم إمارات بهجة الأعياد، وهم يحملون علباً مزينة وأسفاطاً منمقة. وغالباً ما كانت محتويات هذه العلب والأسفاط هي ذاتها: قمامة (مرسلة من مجهول إلى أسماء أصدقاء وأقارب وهميين). لم يكن أحد في الحقيقة يحتفظ بزبالته، وكان الجميع بالمقابل يتعرقلون بزبالة الآخرين. وهكذا جرى كل شيء على عكس ما قدره رئيس البلدية: فليس الإضراب هو الذي تحلل وإنما المدينة بكاملها. عندها قرر إرسال موظف لمفاوضة الزبالين المضربين. ولدى عودته حمل المبعوث معه أخباراً لا تبعث على الطمأنينة. فالزبالون ما عادوا يعتبرون أنفسهم كذلك. والمنطقة التي يحتلها المضربون كانت تلمع بنظافة كاملة. وبدلاً من كونها مجمعاً للقمامة في المدينة، كما هو الحال في السابق، أصبحت منطقة معقمة وسط مجمع القمامة الفسيح . وصار عدد عمال التنظيفات المجتمعين في ذلك القطاع كبيراً إلى درجة أن التطبيق الواعي لمهنتهم ما عاد يتطلب منهم أكثر من ساعة عمل واحدة في اليوم. أما بقية الوقت فكانوا يشغلونه في التفكير.
وقال رئيس البلدية متوهماً:
ــ أتعني أنهم بدؤوا يشعرون بالندم؟
فرد المبعوث متأسفاً:
ــ لا يبدو عليهم ذلك.
ــ وهل أخبرت المضربين عن حال المدينة؟
ــ ولم يفاجئهم ذلك كثيراً. وقالوا إنهم كانوا قد لاحظوا بأن القمامة تولّد كل يوم مزيدا من القمامة، ولاشيء سوى القمامة. وهم الآن يرفضون جمعها. ويقولون إن الوقت قد فات.
ــNous Soummes Foutues (*). هكذا هتف سكرتير الثقافة، وبعد أن منح نفسه جائزة الشعر الكبرى اختفى من القصر، مضيفاً بذلك إلى آلاف الاحباطات، الخذلان الروحي لدى الجماعة.
بعد تجميعها الكبير أخذت جبال الفضلات تنهار. وتقدمت في الشوارع كالسيل محولة إلى قمامة كل ما تصادفه في طريقها من تماثيل، وإشارات مرور، ومارة، وأجهزة مراقبة وأي شيء آخر من ممتلكات البلدية. وصار سكان بوينس آيرس يفضلون عدم الخروج من بيوتهم، وإذا كان ذلك قد اقتضى مقالات صحفية مطولة ومدبجة حول ضرورة استعادة التقاليد المنزلية الصحية، فإن القمامة في الحقيقة أصبحت منذ ذلك الحين تتكاثر داخل البيوت كتكاثرها في الشوارع. وكان التيارن كلاهما يلتقيان من خلال الأبواب والنوافذ بضجة تداخل مشئومة. وبعد الإقرار بأن الورق المطبوع يشكل دائماً الجزء الأعظم من الزبالة، إضافة إلى أنه كان يستخدم، كما رأينا من قبل، كوسيلة للصر والتمويه في عملية تهريب الفضلات، فقد تقرر منع إصدار الصحف والمجلات. فأثار هذا التقييد على حرية الصحافة قلقاً عالمياً، وشكلت برقيات الاحتجاج المرسلة من نقابات الصحفيين العالمية أطناناً من الورق غطت القصر البلدي كله تقريباً.
وفي هذه الأثناء حدث أن ظهر ذلك العجوز الذي لا تغطي جسده سوى ملاءة بالية. صعد ذلك المتشرد أو النبي إلى أعلى جبل القمامة المدخن، وأشار إلى جهة الغرب. لم يعرف أحد أبداً ما قاله (إذا كان قد قال شيئاً)، ولكن صفاً طويلاً تشكل حينئذ من المنسحبين الذين راحوا يغادرون المدينة. وأحرق الموظفون ذوو المراتب العالية أنفسهم وهم أحياء في إشارة على احتجاجهم (على طريقة البوذيين الفيتناميين) ولكنهم لم يصلوا بذلك إلى أية نتيجة سوى إغناء تشكيلة الفضلات والنتانة بجثثهم، ودون التمكن بتصرفهم هذا من وقف نزوح دافعي الضرائب للبلدية.
وبينما كانت القافلة تمر خارج المدينة، مقابل أبراج الإذاعة والتلفزيون، سمع المهاجرون الخبر الرسمي الأخير: «في أوج مرحلة إعادة البناء الاقتصادي. انطلق سكان العاصمة والغبطة تملؤهم في رحلة لقضاء إجازاتهم المستحقة...». انقطع صوت المذيع فجأة وخيم صمت ثقيل في اللحظة التي غطت بها القمامة أبراج البث تماماً. سيول من القمامة كانت تلتقي لتتحد من جديد في اللغة الدائرية للأفعى التي تلتهم نفسها. وبلا بداية أو نهاية تدفقت المادة الجوهرية للكون في قوة فسفورية مرتجة بلا جاذبية والتهمت قافلة الهاربين وراحت تمحو ذكرى المدينة. وبقيت هناك بطحاء نقية وكئيبة ـ كتلك التي حلم بها الزبالون المضربون ـ تنتظر التأسيس الجديد لمدينة بوينس آيرس..

شيء خطير سيحدث: غارسيا ماركيز

غابرييل غارسيا ماركيز: قصة قصيرة جداً
ترجمة الاستاذ صالح علماني
شيء خطير سيحدث
(قصة محكية)


تخيّلوا قرية صغيرة جداً، تعيش فيها سيدة مسنة مع ابنين اثنين، ابن في السابعة عشرة، وابنة أصغر منه في الرابعة عشرة. إنها تقدم وجبة الفطور لابنيها، ويلاحظان في وجهها ملامح قلق شديد. يسألها الابنان عمّا أصابها. فتجيبهما:
ــ لا أدري، لكنني استيقظت بإحساس أن شيئاً خطيراً جداً سيحدث في هذه القرية.
يضحك الابنان منها ويقولان إنها هواجس عجوز.
يذهب الابن ليلعب البلياردو، وفي اللحظة التي يوشك فيها على توجيه ضربة كارامبولا شديدة البساطة، يقول له الخصم:
ــ أراهنك ببيزو أنك لن تفلح.
يضحك الجميع. ويضحك هو أيضاً. ويوجه ضربة الكارامبولا ولا يفلح فيها. يدفع البيزو، ويسأله الحاضرون: ما الذي حدث، لقد كانت كارامبولا سهلة جداً؟ فيجيب:
ــ صحيح، لكنني ما زلت قلقاً من شيء قالته أمي هذا الصباح عن أمر خطير سيحدث في هذه القرية.
يضحك الجميع منه، ويعود الذي كسب البيزو إلى بيته، ويجد أمه ومعها ابنة عم أو حفيدة أو أي قريبة أخرى. فيقول سعيداً بالبيزو:
ــ كسبت هذا البيزو من داماسو بأسهل طريقة، لأنه أبله.
ــ ولماذا هو أبله؟
ــ لم يستطع تحقيق ضربة كارامبولا سهلة جداً لأنه مضطرب بسبب قلق استيقظت به أمه اليوم، وإحساسها بأن شيئاً خطيراً جداً سيحدث في هذه القرية.
عندئذ تقول له أمه:
ــ لا تسخر من هواجس المسنين، لأنها تتحقق أحياناً.
تسمع القريبة الحاضرة ما قاله، وتذهب لشراء اللحم. تقول للجزار:
ــ اعطني رطل لحم. وبينما هو يقطع اللحم، تضيف قائلة:
ــ من الأفضل أن تعطيني رطلين، لأنهم يقولون إن شيئاً خطيراً سيحدث، ومن الخير أن نكون مستعدين.
يبيعها الجزار اللحم، وعندما تأتي سيدة أخرى لتشتري رطل لحم، يقول لها:
ــ خذي رطلين لأن الناس يأتون إلى هنا قائلين إن شيئاً خطيراً سيحدث، وهم يستعدون ويشترون مؤناً.
فتجيبه السيدة عندئذ:
ــ لديّ أبناء كثيرون، من الأفضل أن تعطيني أربعة أرطال.
تأخذ أربعة أرطال. وهكذا يبيع الجزار اللحم كله خلال نصف ساعة، ثم يذبح بقرة أخرى ويبيعها كلها، وتأخذ الشائعة بالانتشار. وتأتي لحظة يكون جميع من في القرية بانتظار حدوث شيء. تُشلّ النشاطات كلها. وفجأة، في الساعة الثانية بعد الظهر، يشتد الحر كالعادة. فيقول أحدهم:
ــ هل لاحظت شدة هذا الحر؟
ــ أجل، ولكن الحر شديد على الدوام في هذه القرية.
إنها قرية شديدة الحر؛ حتى إن الموسيقيين فيها يثبتون أجزاء آلاتهم الموسيقية بالقطران ولا يعزفون إلا في الظل، لأنهم إذا عزفوا عليها تحت الشمس تسقط مفككة.
ــ ومع ذلك ــ يقول أحدهم ــ لم يحدث قطّ أن كان الحر بهذه الشدة في مثل هذا الوقت.
ــ بلى، ولكن ليس بهذه الشدة التي هو عليها الآن.
وفي القرية المقفرة، في الساحة المقفرة، يحطّ فجأة عصفور، وينتشر الخبر: «يوجد عصفور في الساحة». ويأتي الجميع مذعورين لرؤية العصفور.
ــ لكن العصافير تحطّ دوماً هنا أيها السادة.
ــ أجل، ولكن ليس في مثل هذه الساعة.
وتأتي لحظة من التوتر الشديد يكون معها جميع أهالي القرية متلهفين بقنوط للمغادرة دون أن يجدوا الشجاعة لفعل ذلك. فيصرخ أحدهم:
ــ أنا رجل وافر الرجولة، وسوف أرحل.
يوضّب أثاثه، وأبناءه، وبهائمه، ويحشر كل ما لديه في عربة ويجتاز بها الشارع المركزي حيث تراه القرية البائسة كلها. وتأتي لحظة يقولون فيها:«إذا كان هذا قد تجرّأ على الذهاب، فسوف نذهب نحن أيضاً». ويبدأ هجر القرية بكل معنى الكلمة. تُحمل الأمتعة، والبهائم، وكل شيء. ويقول شخص آخر ممن يغادرون القرية: «عسى ألا تقع المصيبة على كل ما بقي من بيتنا»، وعندئذ يحرق بيته، ويحرق آخرون بيوتاً أخرى. يهربون بذعر رهيب وحقيقي، كما لو أنه هروب من حرب، وبينهم تمضي السيدة صاحبة النبوءة وهي تقول:
ــ لقد قلتُ لهم إن شيئاً خطيراً سوف يحدث؛ فقالوا إنني مجنونة

13‏/04‏/2014

قصص قصيرة ضائعة ..


"سرقة قلب"

تلك الحالة التى تصحو فيها من النوم مفزوعاً لأنك كنت على وشك السقوط من مكان مرتفع حدثت لى من بضع أيام .. صحوت مفزوعاً بأنفاس لاهثة، فوضعت يدى على صدرى كى أهدأ قليلا، كان صدرى بلا نبض وما أن تحسست صدرى حتى وجدت جرحاً غائراً فوق قلبى مباشرة، كان الجرح غائراً وكأن أحدهم قد شق صدرى وسرق قلبى .. يا الله لقد سُرق قلبى .. نهضت من سريرى مفزوعاً للمرة الثانية لأبحث عن قلبى المسروق، وما أن أضأت نور غرفتى حتى وقعت عينى على ذلك المخلوق الذى يشبهنى إلى حد كبير ولكنه أشعث الشعر وذو تكوين جسدى مخيف، كان جالساً على الأرض ممسكاً بقطعة دماء متجلطة واضح أنها منزوعة حديثاً من جسد أحدهما وكان يأكل منها ... لقد أستوعبت أخيراً أن هذا الذى فى يده ما هو إلا قلبى، لو كان لى قلباً فى هذه اللحظة لتوقف عن النبض ... وجدتنى أسأله سؤال غريب:"ما طعمه" ... ليرد عليا بصوت مفزع :"طعمه مر يا صديقى ... أكثر مرارة مما كنت تتخيل" ...لم أشعر بنفسى إلا وأنا أصحو مفزوعاً للمرة الثالثة، حينها وضعت يدى على صدرى أبحث عن ذلك الجرح .. ولكن قلبى كان فى مكانه ينبض بقوة.


*****************************

"ذكرى ضائعة"

بورسعيد .. التاسعة ليلاً .. عند بداية شارع "أوجينى" توادعنا، بعد عناقاً قامت به أصابعنا بدلاً من أجسادنا، عبرت هى للرصيف المقابل ثم أستدارت للخلف وأبتسمت ثم لوحت لى بأصابعها لتودعنى ثم غابت وسط الزحام، أخر ما رأيته منها هى تلك الدوائر المتداخلة المرسومة على حجابها الملتف حول رأسها، كان بيننا نهر من السيارات والكثير من الناس المتجهون لـ الرصيف المطل على المجرى الملاحى لقناة السويس، حيث كانت تقف فى نهايته سفينة سياحية ضخمة وجميلة كتبوا علي واجهتها أسمها بالأنجليزية "عايدة".
خلف ذلك الوداع كان أنفصال لا نهائى ... لم نرى بعض مرة أخرى، وبعد سنة وثلاثة أشهر تزوجت، الأن تداهمنى تلك الذكرى بالذات دوناً عن باقى الذكريات التى كانت حصيلة خمس سنوات من الحب، أظن أن هذه الذكرى كانت زائفة وغير حقيقية، لم تكن موجودة من الأصل، وأنها مجرد ذكرى كاذبة نسجها خيالى الخصب ليشبع منها رغبته فى الحنين للماضى.
بالأمس جلست أفكر فى هذه الذكرى بتأنى، هل هى حدثت فعلاً أم أنها مجرد خيالات مريضة، وإن كانت حقيقة فـ كيف كان لنا أن نودع بعض؟!، أن الأرواح خالدة حتى وأن فنيت الأجساد، فكيف لأشياء خالدة أن تودع بعضها ؟؟ كيف نقول اليوم وداعاً رغم يقيننا بأننا سوف نرى بعضنا البعض غداً ... أذا كانت الأرواح لا تموت فأذن يجب ألا نودع بعضنا.
فى وقت ما وذات يوم سنتواصل ثانيةً، لا أعرف فى أى شارع أو أى ساعة، هل سنكون على نفس الرصيف أم الرصيف المقابل؟ لا أعرف ... ولكنى أعرف أنى حينها سوف أسألها هل هذه الذكرى حقيقية وهل حقاً ألتقينا فى ذلك اليوم؟ أم أن لقائنا فى تلك المدينة الضائعة بجانب البحر كان من نسج الخيال.



*****************************  

"الـشكسبيرى الملعون"

أنه لا أحد .. وجهه لا يشبه أحد، صوته لا يشبه احد، حتى قلبه لم يكن يشبه أحد، وروحه كانت خاوية كـ أكمام قميص جندى بتروا له يديه فى معركة ما كان له أن يدخلها قط، أنه ذلك الثلاثينى الأعزب الكاره لـ وظيفته وكل من حوله، لم يكن يكفيه مرتبه الضئيل فـ كيف كان له أن يتزوج وأن يتاح له أن يمارس غريزة تمارسها حتى الحيوانات ؟؟، أن حقده قد أستولى عليه فصار يحقد حتى على الحيوانات الأليفة، فى يوماً وهو ذاهب لعمله رأى ذلك القط الضخم وهو يضاجع تلك القطة المسكينة التى ظلت تتأوه، أى لعنة تلك التى تجعله يتيقن بأنه مخلوق أقل من هذه الحيوانات، لم يكن مؤمناً بأى شىء على الأطلاق وأن تكلم كانت كلماته عبارة عن شتائم وبذاءات يرسلها للعالم من حوله، لم يكن لديه أصدقاء، وكان يعانى من هذا الفراغ القاتل، فكر يوماً بأنه قد يجد ضالته فى الكتب، فأنكب يقرأ كل ما تقع عليه يديه حتى أصبح كـ العجوز "دون كيخوته" الذى يعيش فى الماضى، مستغرقاً فى قراءة الكتب القديمة، حتى تستبد به الرغبة فى أن يكون فارساً بعد أنقضاء زمن الفرسان فيرتدى الدرع، ويمسك السيف ثم يتخيل أن طواحين الهواء جيوش الأعداء، فيهجم عليهم ليهزمهم ... ولأنه لا أحد فقد كان يجد نفسه لا أرادياً متقمصاً شخصية ما .. ولكن مع نهاية كل كتاب كان يجد نفسه لا أحد مرة أخرى، فكان الحل تقمص أبطال أخرين والبحث عن حكايات مأساوية أخرى.
كانت تسكنه تارة روح "يوليوس قيصر" الذى لم يهتم لتحذير العراف، وتارة كانت تسكنه روح "هاملت" وهو ممسكاً بجمجمة مهرج البلاط الملكى يناجيها في المونولوج الجنائزي الشهير حول الموت، وتارة يجد نفسه "ماكبث" الذى يتحدث مع الساحرات اللواتى تنبأوا له بما سيكون عليه مستقبله ... ومن شخصية إلى أخرى ظل عشرون عاماً متشبثاً بتلك الهلوسة المسيطرة عليه ... ولكنه فى ذات ليلة أستولى عليه الآسى والرعب من كونه عدة ملوك يموتون بـ السيف وعدة عشاق معذبون يموتون عشقاً، لدرجة أنه مات رعباً على سريره.
ولأنه لا أحد ولا يعرف أحد فلم يفتقده أحد، وظل ميتاً على سريره غارق فى تقمص دوره الأخير .. وقفت الملائكة على رأسه وتهامست، هذا الذى لم يكن مؤمناً بـ شىء، هذا الذى كان بذيئاً ويشتم كثيراً، هذا الذى مات خوفاً ورعباً، هذا الذى كان غاضباً جداً .. ثم نادت عليه الملائكة: "أنهض أيها الملعون المحظوظ، فلا يوجد مكان لك فى الجحيم، أنه محجوز لهؤلاء الذين كانوا أنفسهم، أما أنت الذى كنت لا أحد فـ يمكنك أن تذهب للجنة، سنفتقد شتائمك حقاً"



***************************** 

"تكرار أبدى للأحداث نفسها"

بعد أن خُطبت حبيبته لـ شخص أخر يشعر بأن روحه قد حُبست فى حبة بندق، وأن صدره قد ضاق على قلبه لدرجة أنه سوف يسحقه، أنه يشعر بأن الدنيا قد أظلمت فى وجهه، وأنه ما عاد قادراً على التنفس حتى، أن النفس الذى يدخل صدره يخرج فاسداً من شدة العطب بداخله، بعد حين يغرق فى الأكتئاب والحزن، لم يعد يستهويه طعام، واللقيمات البسيطة التى يأكلها مرغماً هى ما تجعله يظل قادراً على الوقوف على قدميه، لقد كان يحلم بأن يحمل حبيبته بين ذراعيه والآن لا يستطيع حتى أن يحمل نفسه ... لقد صار هيكلاً مكسو بـ الجلد البشرى، وشعر رأسه بدأ يتساقط وبدأت الآلام تدب فى جسده الواهن .. يفكر بشدة فى الأنتحار ويعقد العزم على ذلك، ولكن بأى طريقة سوف ينتحر؟ أنه يخاف من الغرق بشدة لذلك أستبعد فكرة أن يلقى بنفسه فى نهر النيل، ويستبعد أيضاً فكرة ألقاء نفسه من نافذة غرفته أذ أنه مصاب برهاب الأماكن المرتفعة، تسيطر عليه فكرة الأنتحار بواسطة أبتلاع كمية كبيرة من أقراص المسكنات. ولكنه فى النهاية يستسلم للواقع ويقبل دعوة أحد أصدقائه القدامى للعمل فى الخليج.
بعد سنوات من النسيان والعمل وأدخار الأموال تخبره أمه أنها وجدت له "بنت الحلال"، أن ظروف الغربة لا تُتيح له أن يختار بنفسه زوجة له لذلك يوافق على قرار والدته، ومع أول أجازة له يذهب مع أهله لخطوبة من وقع عليها الأختيار، تتم الخطوبة سريعاً مُخلفة ورائها حبيباً قلبه قد أنفطر على حبيبة ستتزوج من غيره .. يغرق هو الأخر فى الأكتئاب والتفكير فى الأنتحار .. وسيظل على هذا الوضع حتى تأتيه دعوة صديق للعمل فى الخليج.

لقد قالها "فريدريك نيتشه" فى ذات يوم :"أنه تكرار أبدى للأحداث نفسها".
 


***************************** 


من سخرية القدر فى مدينتنا الصغيرة "بورسعيد" التى كانت يوماً ما جزيرة وأصبحت بعد جهود شبه جزيرة يحدها البحر من كل جانب أن مقابر الموتى تقع مباشرة أمام البحر فى أجمل مكان فى بورسعيد بجوار القرى السياحية، لدرجة تجعلك تظن أن موتانا فى هذه المدينة يكون مستقرهم الأخير أفضل مما كانوا يتوقعونه طوال حياتهم .. لذلك وأنت هنا فى مدينتنا عندما تذهب للمقابر لـ دفن أحداً ما سـتستنشق رائحة البحر وعينك ستجمع الملح ... حينها لا تسأل من أين تأتى كل هذه الدموع ..

***************************** 


كان معتاداً أن يمشى مجاوراً الرصيف وعيناه فى الأرض، من يراه لـ أول وهلة يعتقد بأنه يبحث عن شيئاً ما بـ الأسفل، ولكنها لم تكن سوى عادته الخجولة وهو يمشى، فى بعض الأوقات كان يرى صورته في الماء المتجمع فى الشوراع على هيئة برك صغيرة، كان حينها يشعر بـ البهجة لأنه وجد الآخر الذى يشبهه ولكنها بهجة سرعان ما تتلاشى لأنه كان يجده يغرق، مازال يبحث عن ذلك الآخر موقناً بأنه سوف يجده فى يوماً ما، كان واحداً ممن يؤمنون بأن روحاً واحدة تولد فى السماء يمكنها أحياناً أن تنقسم إلى روحين ثم تنطلق كـ الشهب التى تسقط على الأرض فوق المحيطات والقارات حيث قواهم المغناطيسية توحدهم فى النهاية وتجعلهم روحاً واحدة.

ولكى تستمتع الآلهة وتبتسم كان يروق لها فى ذلك اليوم أن تجعل أصابعه تلامس أصابع فتاة مرت بجواره وأمتزج ظلها فى ظله، فتاة جميلة ستكون يوماً ما هى الآخر الذى يبحث عنه، جميلة لدرجة تُغنيها عن رسم عينها بـ كحل Channel أو أن تجعل رموشها كثيفة وطويلة بـ ماسكارا Dior أو أن تُطلى خدودها بـ بلاشر D&G أو أن تجعل شفتيها تحت رعاية Burberry ، فتاة مثقفة مهتمة بالأدب والموسيقى والفن، متحررة وشغوفة بالتجارب والمغامرات، وأسمها غنى وكثيف وممتلىء ومفعم بـ الحياة، ستتلامس أصابعهم ولن يلتفت احداً منهم على الأخر، ستتوقف "هى" أمام مكتبة تائهة بين عناوين الكتب، وسوف تشترى كتاباً كُتب أسفله "الطبعة العشرون" سوف تتسائل فيما بعد عن كل هؤلاء الحمقى الذين أستهلكوا كل هذه النسخ، وستتمنى بأنها لو كانت تبرعت بـ الثلاثون جنيهاً للطفل بائع الزهور عند الإشارة ... أما "هو" فـ سيظل ماشياً وسيبحث عن بئراً يقف بجواره كـ "يوسف" لـ يلتقطه بعض السيارة، خوفاً من ان يأكله الذئب .. ذئب الوحدة.

ستضحك الآلهة مع ملائكة الحب الزرقاء لأنهم يعلموا جيداً أنه فى يوماً ما سيكون حبهما كـ صلاة تامة، كـ شجرة سنديان سوف تبدأ بـ بذرة وستظل تنمو لـ آلاف السنيين حتى بعد رحيل من زرعوا تلك البذرة .. ستضحك الآلهة والملائكة على البشر الحمقى الذين لا يعرفون بأن أعظم الأتصال ... هو أمتزاج الظلال بـ الظلال.

  

*****************************



 لم يكن يتمنى أن يقع فى الحب مجدداً، ولكنه وقع رغماً عنه. كـ النور المشرق جذبته كما تجذب النار المتوهجة الفراشة التى ترتمى فى أحضان النار طواعية. أخرجته من الظلام ورفعته من على الأرض، وأعادته للحياة.

لم يلتقى بها سوى ثلاثة مرات فى ثلاثة أيام متتالية، كانت فيهم ناعمة، صغيرة، شفافة، وبها رائحة الورد والفاكهة، اليوم الأول كان "المفاجأة" كانت قد خطفت روحه، اليوم الثانى كان "اليقين العظيم" حينها أيقن أنه وقع فى حبها، اليوم الثالث كان "الندم" لأنه لم يلتقى بها من قبل، بعد ثلاثة أيام كان ثملاً وممتلىء بها، كان غارقاً فى حب أسمها الباعث للسكينة فى الروح، فـ راح يُمطرها بوابل من الرسائل الصامتة تماماً كما يفعل القمر، كانت كل رغبته بأن يلقى رأسه فوق ركبتيها للأبد.

كتب فى مذكرته:
"ما هذا الحب الذى يجمعنا ؟! .. جاء من المجهول
كالمطر من السحاب، وكالنور من السماء، جاء منك ..
حبى .. نورى .. أملى ..
أن أحببتنى .. فلن يتبقى شىء أريده .."
ثم ختم كلماته بـ جملة:
"كل الأشياء تصبح أوضح حين تفسر ، غير أن هذا العشق يكون أوضح حين لا تكون له أي تفسيرات"

قرر فى النهاية أن يلتقيها مرة رابعة ليُعطيها مذكرته من أجل أن تحتفظ بها، وهى أجزل هبة يمكن أن يُهديها شخص منعزل مثله ..


 ***************************** 


على فكرة أنا أقل حاجة ممكن تبسطنى، وأسهل حاجة أنك تفرحنى، وممكن بكلمة بسيطة تخلينى أضحك وأقع على قفايا من الضحك ، وبرضه سهل جداً أنك تضحك عليا وتاكل بـ قلبى حلاوة سواء بكلمة أو بضحكة أو حتى أبتسامة بسيطة مش مبين فيها سنانك، بس ساعتها هيكفينى أنى أشوف غمازات خدودك، وعنيك وهى بتضيق غصب عنك وأنتا بتبتسم، ساعتها هسأل نفسى هى عينك بتقفل لا أرادياً وغصب عنك فعلاً ولا أنتا بتكون قاصد تغمزلى؟؟ .. مهو أصل أنا هبقى بتلكك على غمزة منك أترجمها لـ مليون حاجة فى دماغى، وأفهم منها مليون رسالة برضه فى دماغى، سامحنى أنى بحمل غمزتك ليا فوق طاقتها .. وأحتمال كبير متكونش غمزة أصلاً .. بس أنا هتخيلها غمزة وهضحك على نفسى وهثول أنك كنت قاصد تغمزلى.

بص .. كلمة منك أو أبتسامة أو حتى ضحكة أو مكالمة تلفون أو حتى مسج صغير ولا حتى رنة كل الحاجات دى هكون محتاج أكتر منها، مهو أصل أنا طماع. مش انا لوحدى اللى طماع، كل الناس طماعة، هقنع نفسى أن الطمع دا غريزة أساسية عن البشر وهطلب منك صورة تبعتيهالى أفتحها كل ما الدنيا تكركب فوق دماغى علشان أتأمل فيها وأعرف أن الدنيا فيها حاجات حلوة كتير أو أطلب منك حضن أو بوسة، واحدة على خدى وواحدة على جبينى، وهقولك أحضن وخبط على ضهرى جامد .. مهو أصل أنا هفضل أناديك وهبعتلك رسايل صامتة تقولك تعالى يا عم قلبى أهو مفتوحلك خش براحتك وعلى أقل من مهلك، هبعتلك الرسايل دى صامتة عشان أنتا عارف أنى هكون مكسوف أقولهالك عينى عينك كدا، بس انا عارف أنى لما ألمحلك بـ قلبى هتكون فاهم الأشارة، حتى لو مفهمتش هحاول أقنع نفسى بكدا، وهتخيل اليوم اللى هتيجى فيه من غير رسالة صامتة ولا عزومة ولا منادية لأنى ساعتها هفرح بيك أوى، لدرجة أنى هفرشلك قلبى أأأأأأأأأ .. مش عارف .. ألا صحيح هما بيفرشوا القلب أيه ؟؟
أصل أنا مش متخيل أن فى حد ممكن يفرش قلبه ورد أو ياسمين ولا حتى رمل أصفر .. التفكير فى حكاية هفرشلك قلبى أيه سخيفة أوى دلوقت ..
بص أنتا تيجى ونخليها بـ ظروفها ..

 

أنا وإيمان وأفلاطون


إيمان .. الفنانة التشكيلية والناشطة بـ منظمات حقوق الحيوان ورفيقة الدرب وصديقة العمر..
الحقيقة بعد فترة أنقطاع من الأتصال بسبب ظروف العمل بالنسبة لى وبسبب ظروف كتابة رسالة الماجستير بالنسبة لها، أتصلت بها من ثلاثة أيام لمواساتها فى موت رفيقة عمرها القطة "لودى" التى ظلت تنام بأحضانها لمدة 11 عام متواصلة، وكانت فى حالة بكاء هيستيرى بسبب "لودى"، حينها قطعت عهداً على نفسى بأن أكرر الأتصال حتى تنكشف الغمة وتنجلى الأحزان.

اليوم أتصلت بها ولأنى أعرف مدى حبها للحيوانات فقد أردت أن أواسيها قائلاً لها بأن الفيلسوف الأغريقى "افلاطون" كان مؤمن بأن هناك عالمان، العالم الذى نعيش فيه ويسميه أفلاطون بـ "العالم المادى" وهناك "عالم المثل"، أفلاطون كان بعتقد أن كل شىء فى عالمنا المادى له نظير فى "عالم المثل" وهو نظير كامل لا يشوبه نقصان، وأن عالمنا خلق كنوع من التقليد والمحاكاة لـ "عالم المثل"، وعالم المثل فيه كل شىء نتصوره "كامل مكمل" وعلى رأسها "مثال المثل" خالق "عالم المثل" الذى يطلق عليه أفلاطون "مثال الخير"، قلت لها أن ثمة قطة أفلاطونية ما وراء جميع القطط وأنه مادام كل قطة هى القطة نفسها الموجودة فى "عالم المثل" فأن أياً من القطط قد يحل مكان قطتها "لودى".

صمتت "إيمان" لبعض الوقت ثم قالت لى بصوت غاضب بأننى أعلم جيداً أين أستطيع أن أضع "أفلاطون" هذا.

ماركيز ومرسيدس


فى أوائل شهر أغسطس من عام 1966 كان السيد "جابرييل جارسيا ماركيز" والسيدة "مرسيدس" زوجته واقفون أمام مكتب "سان أنجل" للبريد فى مدينة "نيو مكسيكو" المكسيكية لأرسال النسخة الأصلية من رواية "مائة عام من العزلة" لـ العاصمة الأرجنتينية "بوينس آيرس" المقر الرسمى لـ المدير الأدبى لدار "سودأمريكانا" للنشر.

الرواية كانت مكونة من 510 صفحة حصيلة عمل 18 شهر، موظف البريد وزن الورق وحسب تكلفة أرسال المظروف بـ 85 بيزو (حوالى 21 دولار)، السيدة "مرسيدس" المسئولة عن الشئون المالية أبلغت زوجها أن كل ما يملكوه هو 50 بيزو فقط، بعد تفكير فى الحل قسموا الورق لـ جزئين وأرسلوا الجزء الأول من الرواية، وعندما عادوا للمنزل ظل كلاهما يبحث عن شىء يرهنه لتوفير بعض المال لأرسال الجزء الثانى من الرواية .. والحقيقة لم يكن عندهم ما يرهنوه ولا يوجد صديق قد يقرضهم باقى المبلغ لأنهم أقترضوا طوال 18 شهر من الكثير من الأصدقاء ولم يسددوا شيئاً من ألتزماتهم، لم يكن هناك سوى الآلة الكاتبة التى ظل "ماركيز" يجلس عليها 6 ساعات يومياً طوال عام ونصف لأنهاء الرواية ولكنهم طردوا فكرة رهن الآلة لما تمثله لهم ولأنها كانت مصدر رزقهم الوحيد، الشىء الأخر الذى تبقى هو خاتم زواجهما والذى لم يجرؤوا يوماً على رهنه لما يمثله من فأل سيء ولكن السيدة "مرسيدس" قد حسمت الأمر وأصرت على رهن خواتم الزواج لأرسال الجزء الثانى من الرواية، رهن خاتمى الزواج وفر لهم مبلغ يزيد عما كانا يحتاجون إليه، وما أن ذهبوا لأرسال الجزء الثانى للرواية بعد ثلاثة أيام من أرسال الجزء الأول حتى أكتشفوا أنهم عكسوا الرواية وأرسلوا الجزء الثانى قبل الجزء الأول .. بعد أرسال الأوراق قالت "مرسيدس":- الشىء الوحيد الذى ينقصنا هو أن تكون الرواية جيدة. كانت تلك العبارة هى أخر جملة فى رحلة المعاناة التى بدأت من 18 شهراً والتى بدأها "ماركيز" عندما عاد من عطلة نهاية الأسبوع وجلس على الماكينة ليكتب أول كلماته "بعد عدة سنوات وأمام فصيلة الأعدام، كان على الكولونيل أورليانو بويندا أن يتذكر ذلك اليوم البعيد الذى أصطحبه فيه والده ليتعرف على الثلج" ... أظن أن هذه هى أشهر أفتتاحية رواية على الأطلاق

المحصلة النهائية: رواية "مائة عام من العزلة" نشرت عام 1967 عدد طبعاتها تجاوز الـ 53 مليون نسخة وتمت ترجمتها لـ 30 لغة مختلفة، وحصل مؤلفها على نوبل لـ الآداب. الرواية عظيمة رغم أنى أحتجت أن اقرأ أول 100 صفحة منها خمس مرات متتالية للدخول فى السرد الروائى ورغم أنى نجحت أن أصل لـ نصف الرواية إلا أننى لم أكملها من يومها :))

مولانا "جابرييل جارسيا ماركيز" عليك سلاماً وتسليماً.
أدعوا لـ مولانا أن ربنا يشفيه.